الإسكندر المقدوني | سكيولوجية الملل والعنف لدى الإسكندر الأكبر

 

الإسكندر المقدوني – سكيولوجية الملل والعنف لدى الإسكندر الأكبر

حوالى العام ٢٣٧ ق .م اعتقل الجنرال الإغريقي بيلوبيداس أميراً مقدونياً يبلغ الخامسة عشرة من عمره اسمه فيليب المقدوني واحتفظ به كرهينة في مدينة طيبة اليونانية ليضمن ولاء أخا فيليب الأكبر وملك مقدونيا آنذاك الملك أليكسندر.

وجد الأمير الصغير فيليب المقدوني أن بلده مقدونيا تبدو قرية بسيطة مقارنة بطيبة، أذهلته الحضارة اليونانية بكل إنجازاتها، كان فيليب شاباً ذكياً وكان أخاه الأكبر منه بيردكاس والأصغر من أليكسندر من تلاميذ الفيلسوف اليوناني أفلاطون.

شغف الأمير الصغير بدراسة الفلسفة والآداب وفن الخطابة، وحين اغتيل أخاه الأكبر الملك أليكسندر حاكم مقدونياً أعاده اليونانيون إلى بلاده، وبلا شك وجد القصر في مقدونيا محلياً و ريفياً لايطاق، وحين اغتيل أخاه الثاني بيردكاس أيضاً بعد أن تولى الحكم من بعد أخيه أليكسندر، أرتقى فيليب العرش وانطلق بهمة لتحديث مقدونيا وتحويلها ليونان أخرى.

كان عسكرياً بالفطرة وبسرعة حول الجيش من جماعات متشرذمة إلى آلة عظيمة تصارع جيوش أسبرطة، أخضع أولاً قبائل الجبال المتمردة في مقدونيا، وحين اتخمته نشوة الانتصار، خرج بجيوشه واحتل مناطق مترامية الأطراف حول نهر الدانوب حتى حدود اليونان.

لم يخض تلك الحروب بغرض تحقيق الأمان والرخاء لشعبه بل كانت لأسباب رومانطيقية بحتة، قتال لمتعة القتال، للشهرة والفخار، وعدا كل تلك الدوافع كان الدافع الأكبر والأهم أن تجعله تلك الانتصارات مستحقاً لنيل إعجاب الإغريق الأكثر رقياً وتحضراً.

مثل فرسان القرون الوسطى في أوروبا كان فيليب يخوض المعارك على شرف محبوبته اليونان، وحين أخضع بلاد الشرق والشمال، سار جنوباً باتجاه اليونان ذاتها وقهر محبوبته، وأصبحت طيبة التي كانت موضع إعجابه حين كان صبياً أسيرة تحت قبضته واحتلها جيشه المقدوني وهو الجيش الذي ستذوق منه طيبة ويلات وأهوال وخيمة.

بعد ذلك بعامين اغتيل فيليب وهو في سن السادسة والأربعين وتولى الحكم ابنه “الإسكندر” فتنفست اليونان الصعداء لأنه كان شاباً في العشرين من عمره ظنت أنه تعوزه الحكمة لكن هيهات.

ففي العام التالي أدت شائعة عن موت الإسكندر إلى تمرد أهل طيبة فانقض عليها الإسكندر كالصاعقة واجتاح المدينة كالإعصار وذبح كل  سكانها، بخلاف والده لم يكن الاسكندر يكنّ أي إعجاب أو عطف تجاه طيبة وأهلها.

إلا أنه ماثل أباه وشابهه في جانب مهم: كان رومانطيقياً مثله يحلم بالآفاق البعيدة ويبحث عما لايعرف كنهه، عبر بعد ذلك اليونان وهاجم جيس الإمبراطورية الفارسية وهزمه مستخدماً تكتيكاً جديداً وهو مهاجمة جيش الفرس مباشرة دون الانتظار يومين لإعدادهم واستعدادهم وهو ما لم يتوقعه الفرس.

دفع الملك الفارسي “داربوس” بجيوش جديدة فهزمها أيضاً. (تحكي بعض الروايات أن الإسكندر بعد أن هزم جيش الملك الفارسي دخل خيمته واستحم في حمامه الملكي وتمدد على أريكته الحريرية ورفع كأساً من النبيذ قائلاً: هذا إذن مايسمونه الملكية) ويقال بأنه عامل حاشية الملك الفارسي  من النساء بوحشية وتزوج بواحدة منهن.

وبعد ذلك قضى أعواماً من الغزوات والحروب احتل بها بابل ومصر ، وتوسل له قادته ليعود بهم للوطن فعاد مكرهاً إلى بابل لكن خيالاته بإيجاد مدينة أحلامه لم تتحقق فأخذ يخطط لغزو إفريقيا حين أصابته حمى وهو في الثانية والثلاثين أودت بحياته.

إلا أن الأبحاث الحديثة أضاءت جوانب مهمة من حياته منها أنه مات بالخمر، ويسد ذلك الافتراض جانباً مفقوداً من اللغز وهو أن الإسكندر كان رجلاً متطرفاً في مناسبات عديدة أمر بذبح سكان مدن بأكملها حتى آخر امرأة وطفل، وفي مناسبات أخرى كان بالغ الكياسة والرقي.

حين مات صديقه المقرب هيڤستيون كانت أحزانه عميقة وصادقة حتى أنه أمر بصلب الطبيب الذي كان مشرفاً عليه قبل موته، وفي مناسبة أخرى بعد مشادة بينه وبين أخيه بالرضاعة والتنشئة “كلايتوس” انتزع رمحاً من أحد أفراد الحرس وطعنه بها طعنة قاتلة.

وحيت أفاق من فورة غضبه وأدرك مافعله حاول قتل نفسه بالرمح ذاته في عنقه، وكل ماسبق نماذج نمطية لمدمن الكحول في جموح السكر الغاضب ثم نوبات العاطفة الشديدة.

عدا عن ذلك فإن إدمانه على الكحوليات يؤكد على أنه منقسم على ذاته، يجاهد بلا جدوى للفرار من ضيق وعي المخ الأيسر، كان من الممكن أن يكون أسعد حالاً لو كان أغبى مما كان عليه، إلا أنه انحدر من صلب عائلة تتسم بالذكاء الرومانطيقي لقد درس أبوه الفلسفة على يد أفلاطون في طيبة وحين كان عليه أن يعين مدرساً لابنه اختار له أرسطو تلميذ أفلاطون، إلا أن الإسكندر كان مثل والده جياش العاطفة، غير منضبط كلياً، لم يستمتع بالفلسفة ولم يجد سلواه فيها مثّلت الخمر لإسكندر ما مثلته الكوكائين لشارلوك هولمز كوسيلة للهروب من عالم ممل كئيب، ربما كانت الروايات التي ذكرت أن الإسكندر كان يبكي لافتقاده عوالم جديدة يقوم بغزوها روايات محرفة، لكنها تشي بجوهر تشوقه إلى آفاقق لم يصل إليها أحد بعد.

إلى هنا حاولت الوصول إلى نقطة مهمة جداً نواجهها يومياً وهي الملل، قد تكون كل ممارسات الإسكندر ووالده فيليب نابعة من شعورهما بالملل، ولتفريغ هذه المشاعر تعمد كل شخصية لتصرفات وأنماط معينة من الأفعال، فلكي يشبع الإسكندر شعور الملل الشديد لديه اختار العنف، فكان يغزو ويكتشف ويقتل ويدمر وكأنه يقول: وماذا بعد، هل هذا كل شيء؟

إن من الضروري أن ندرك أن الملل من أهم سمات “أحادية العقل” غير المرغوبة.

فالملل ليس إلا إحساساً بالموت الداخلي أو ما يمكن وصفه بأنه فقدان الاتصال بالغرائز والمشاعر، لقد أظهرت التجارب التي استخدم فيها جهاز تخطيط المخ الكهربائي أنه حين يسيطر علينا الملل والضجر، يظهر تخطيط نصف المخ الأيمن موجات من نوع ألفا وهي نفس الموجات التي تظهر عندما يكون المخ معطلاً.

اكتشف (روبرت إيرنشتاين) وهو أحد رواد أبحاث المخ المنقسم أن تلك الموجات تظهر حين يكون المخ عاطلا على إجراء عمليات حسابية، وهي تظهر بوجه عام أثناء قيامنا بأعمال غير مثيرة، فإذا واجه نصف المخ الأيمن ظروفاً تجعله يتكاسل أو يتعطل كثيراً، فإنه يستغرق في النوم.

إن وظيفة الذات الأخرى هي إضافة وإضفاء بعد ثالث من الواقع على الوجود البشري، فإذا انشغل المخ تماماً بالتعامل مع أمور مختلفة بأن يشتبك مع مشاكل معقدة ويفتقد الصبر تحت وطأة مهام وأعمال تكرارية ليست ذات جدوى، فإن نصف المخ الأيمن يبدأ بالتقارب ويحملق في كآبة إلى ما خارج النافذة، ويصبح الواقع بطريقة غامضة غير واقعي، حين يحدث ذلك نشعر برغبة ملحة وفورية لخلق شيء مثير لنقوم به. فالطفل حين يصل إلى هذه المرحلة يندفع ويدير زر التلفاز، وتذهب المرأة لشراء قبعة جديدة لا تحتاجها، ويتجاهل آخر جز عشب حديقته ويذهب لصيد السمك.

أما الإسكندر فقد تطلع إلى الخرائط وقرر غزو بلاد جديدة، لكن حتى الغزو ذاته المفترض أنه مثير يمر بمراحل مملة: مسيرات طويلة، أيام ممطرة مملة لا يحدث فيها شيء، وبمجرد أن يتسرب إليه الملل، يمد يده إلى قارورة الخمر.

قد يكون هذا أحد أهم الإجابات (بالتأكيد ليست الوحيدة) عن تساؤل مهم نطرحه على الدوام، وهو: “لما البشر هم المخلوقات الوحيدة التي تقتل وتعذب بني جنسها؟”

بإمكاننا القول بأن العدوان والهمجية والاعتداء مثل الكحول، يعيدان التوازن المفقود بين نصفي المخ، إنه ينقذنا من (أسبابنا الخامدة) وينقلنا إلى استعادة مشاعرنا وأحاسيسنا بالأهداف الغريزية.

حين ندرك ذلك فإننا ندرك الدوافع الأساسية لكل أنواع وأشكال الإجرام، الطفل الذي يشعر بالملل يلتفت حوله باحثاً عن شيء يعمله أو يقوم بفعل مزعج أو مخرب ليثير الانتباه، كذلك المراهق الذي يشعر بالملل يتوجه لكشك عمومي يخربه أو يتشاجر مع شبان الحي، أو يلاحق الفتيات، حتى البالغين قد يتوجهون لأعمال مثل هذه بدافع الملل والضجر، فرجل الأعمال تجده يبدأ بإغواء سكرتيرته عندما يستولي عليه الملل رغم أنه لا يجدها جميلة وجذابة، إن دوستويفسكيخصص رواية كاملة أسماها الممسوس يحكي فيها عن رجل يقوم بأفعال فاضحة دون أي دافع واضح، إلا أنه ذكر أن ذلك ينبعث من إحساس داخلي ناتج عن افتقاده لما لا يستطيع أن يفعله بقوته البدنية الهائلة التي لديه.

كذلك في رواية جان بول سارتر سن العقل يقوم شاب اسمه بوريس بالسرقة من المتاجر لخلق مشاعر وأحاسيس بالإثارة رغم أنه غني ليس بحاجة للمال والسرقة.

إذا نستنتج أن الملل يؤدي للفضول ومن هنا ينقسم لنوعين حسب الشخصية التي تعاني من هذا الشعور: فضول حميد (بنّاء) وهو النوع الذي قامت عليه الحضارة الإنسانية، فالعالِم الذي بحث واستكشف واخترع دفعه فضوله لمعرفة ما السر في هذا الشيء وكيف يعمل ولماذا؟ وانطلاقاً منه صعدنا إلى الفضاء واكتشفنا الكون وأسسنا العلوم الإنسانية بكافة أشكالها.

أما النوع الآخر فهو الفضول الهدّام الذي يجر صاحبه لممارسة أعمال همجية وعنيفة ليس لها فائدة سوى التدمير والتخريب والأذى.

تجربة شخصية: في إحدى الفترات التي كنت قد أتيت حديثاً إلى بلد جديد عليَّ تماماً، كنت أنظر إلى العالم من حولي وأرى كم هو متطور ومتقدم هنا، كل الآفاق مفتوحة أمامي وكل الخيارات متاحة لكنني غير قادرة على البدء بشيء. كان هذا سبباً أرقني كثيراً ودفعني للبكاء وجرني لحالة اكتئاب ويأس، وكله بسبب أنني أحمل في داخلي طاقة هائلة للعمل والاستكشاف وأشعر بالحماس والإثارة، لكن يداي مشلولتان، فدفعني ذلك للملل والخمول (جيد أنني تخطيت ذلك بعد أن فهمت نفسي جيداً).