التَّواصلُ حلٌ للقضاءِ على العُنصريَّة
المقدمة
إنَّ العنصريَّة هي من أكبر الآفات الإجتماعية التي تعيشُها المجتمعاتُ حول الأرض، ولا تكاد تخلو دولةٌ أو قوميةٌ الآن من هذه الآفة الخطيرة لاسيما في الشَّرق الأوسط حيث نعاني منها بقوَّة كبيرة في ظلِّ تعدُّد الأعراق والقوميات والتنوع الثقافي والفكري أو الأيديولوجي للمكونات التي ترسم نسيج هذه البقعة الجغرافية.
إن التنمُّر أو العُنصرية في وجهها القبيح باتت تتحكم بكلِّ مفاصلِ الحياة في الشرق الأوسط من أسمائِنا وألوانِ ثيابنا إلى لغتِنا وتعاملنا مع البشر، والسَّبب في العنصريَّة هو أنَّ كلٌّ منَّا يجدُ نفسهُ هو الَّذي يلبس ثوب الحق وأنه هو صاحب الفضل والتَّأريخ الأعرق وأنَّ هذه القومية او تلك أفضل من غيرها بجيناتها وأخلاقها وتعاملها وعقليَّتها حتى أنها باتت تجسد فلسفة إبليس الأزلية حين قال “أنا خيرٌ منه”.
لقد عملت الحكومات الديكتاتورية المتعاقبة على تعزيز العُنصريَّة المقيتة وقد تمكَّنت هذه الحكومات الديكتاتورية من تقسيم المجتمع وتفتيتهِ وجعلهِ قِطعاً كثيرةً، وذلك حتى يتسنَّى لها أن تطبق أحد أقدم الأفكار السِّياسيَّة الشِّريرة في العالم وهي / فرق تسد / وذلك بهدف الإستبداد في سدة الحكم والهيمنة على فئات الشعب المتعددة .
لم تقتصر ممارسة العنصرية بين القوميات فقط بل تجاوزها حتى بين المدن من نفس القومية وبين العشائر المتجاورة والمتنوعة وحتى بين البيوت في نفس القرية والحيِّ ولعلَّ أهم أسباب تفشِّي العُنصريَّة وانتشارها الكبير هو عدم التَّواصُل بين الحضارات والشعوب، فالتَّحريف المُمنهج لتاريخ حضارةٍ ما على حسابِ حضارةٍ أخرى ولَّدت عند القومية الحاكمة شعوراً بالعزِّ والفخر بقومتيه واشمئزازاً من القوميات الأخرى التي تمَّ تصويرها على أنهم مجرد همجٌ ورعاعٌ، ولا يملكون تاريخ ولا آثار، بينما ولَّدت عند القوميات الأخرى شعوراً بالعصبية وكرهاً للقومية الحاكمة باعتبارهاً رمزاً أو وجهاً حقيقياً لتكريس هذه الخصلة القميئة بين أفراد رعية الدولة ككل، ولأنها تطمس هوية من يخالفها وتخفي اثارهم وتاريخهم وتشوِّه سمعتهم فيولد الخلاف العنصريُّ بين القوميَّتين ويصبحون أعداء دون أن يتعرفوا على بعض، ويدرسوا كتب بعض فتزداد العنصرية والتفرقة بين القوميَّتين، وتنجح بذلك خطة الحكومات الديكتاتورية في تفرقة الشعب.
فالتَّواصُل إذاً هو السَّبيل الأوحد لنزع الخِلافات والقضاء على العنصريَّة نزولاً عند قول المولى عز وجل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *
مفهوم التَّواصل
منذ وجود الإنسان على الأرض وهو يعتمدون على التواصل بين بعضهم البعض لنقل خبراتهم وتبادل قصصهم وتجاربهم وحلِّ خلافاتهم عن طريق التَّواصل بين الأفراد والجماعات، فالتواصل لغةً هو: الإقتران والإتصال والصٌّلة والتَّرابط والإلتئام والجمع والإبلاغ والانتهاء والإعلام، وتعني إنشاء علاقة ترابط وإرسال وتبادل.
أما التَّواصُل اصطلاحاً: فهو عملية نقلٍ للأفكار والتَّجارب وتبادُل المعارف بين الأفراد والجماعات، فمن دون التَّواصل لما كنَّا فيما نحن عليه من تقدمٍ وحضارةٍ الآن؛ فعن طريق التَّواصل نقل الإنسان معارفه وتجاربه عبر التَّاريخ وحول العالم كلِّه.
تاريخ التَّواصل
عرف الإنسانُ القديم التَّواصل عبر صياحٍ واشاراتٍ وكلماتٍ تعبيريةٍ، وكانت هذه اللغة او الأصوات وحتى الإشارات البسيطة لا تتعدَّى البضع أمورٍ هي بمثابة إتفاقٍ على الصيد أوالهجوم على الحيوانات وجمع الثِّمار أوتحديد مناطقهم بوضع علاماتٍ مثلما تفعل الحيوانات، وكانت بساطة التَّواصل هذه هي بسبب بساطة الحياة نفسها وخلوِّها من تعقيدات اليوم؛ أما عمليَّة التَّواصل فيما بينهم وبين المجتمعات الأخرى فكانت قليلةً وضئيلة، وإذا حدثت فكانت للتَّبادل أو للتَّوجيه ومنع أحد من الإقتراب من مناطقهم.
إنَّ استخدامَ أساليب تواصل الإنسان القديم واختلافهم في شكل تلك الصيحات أوالصراخ العالي كنوعٍ من أنواع التَّواصل والتعبير تطوَّرت بتطوُّر المجتمعات البشريَّة وذلك مع ازدياد البشر القدماء وازدياد حجم تلك المجتمعات مما اضطرهم قبل أربعين ألف عام أن يمتهنوا الرَّسم كنوعٍ من التَّواصل وشكلاً من أشكال الُّلغة؛ فنجدهم بدؤوا برسم الجداريات والحيوانات التي يصطادونها في كهوفهم القديمة بشكلٍ يُوضِّح أساليب ونمط حياتهم فكانت بحقٍ نقلةً كبيرةً يمكننا أن نشبِّهها باختراع الكتابة.
منذ ذلك الوقت بدء الإنسان يوثِّق حياته ليتواصل بها مع الأجيال التي تأتي بعده أو لتكون شاهدةً على منطقته وحدود ملكه، لذلك نجد في جدارياتهم أنهم تركوا صورة لكفِّ يدهم كنوعٍ من البصمة حيث نشاهدها في واحدةٍ من أقدم رسوم الجداريات في العالم وذلك في جزيرة (سولاوسي الاندونيسية) التي يعود تاريخ الرسوم فيها الى ٤٠ ألف عام.
كما نجد نفس الشيء في (كهف كاستيلو). في أسبانيا، والتي قال الباحثون في جامعة بريستول البريطانية إن تاريخها يعود إلى نحو 37 ألفا و300 عام ونفس الشيء في( كهف تأسيلي) بالجزائر الذي يعود تاريخه الى ٣٠ ألف عام واستمرَّ الإنسان بهذا الترميز الصوري حتى توصَّل إلى اختراع الكتابة في بلاد ما بين النهرين في 3600ق.م على الرُّقم الطينيَّة ثم أتت بعدها اللغة الهيروغليفية في مصر بوقتٍ قريبٍ؛ أمَّا التَّطور الثاني في الُّلغة فكانت في أوغاريت ١٤٠٠ ق.م حيث أُخترِعَت الأبجدية، وعرف البشر الأحرف، وبهذا أصبح التَّواصل ونقل الخبرات والتَّعلم أسهل وباتت تنتشر بشكلٍ أسرعٍ حول العالم .
الترجمة
كان وصول الإنسان للعُلوم واكتشافه للُّغة والأبجديَّة كانت أمراً مهمَّاً جدَّاً لتعليم الشعوب وتنظيم حياتهم ولكنها بقيَت في سياق الشعب الواحد إلى أن أتت فكرةَ التَّرجمة والتي كانت كفيلةً بإيصال الثقافات وانتشارها بين الحضارات ونقل خبراتهم وعلومهم بين بعض مثل رسائل تل العمارنة التي تعود للقرن الخامس عشر قبل الميلاد والمكتوبة باللغتين الأكادية والمصرية القديمة، وحجر الرشيد الذي يعود للقرن الخامس قبل الميلاد وكتباً باللغات الهيروغليفية، اليونانية، والمصرية القديمة.
لقد كانت دواعي التَّرجمة وما صاحبها من انعكاساتٍ إيجابيةٍ السببَ الذي أدَّى هارون رشيد لبناء بيت الحكمة في بغداد عام ٨٠٠ ميلادي لترجمة الكتب ولذلك كان ذلك العصر هو العصر الذَّهبيِّ في حضارة الإسلام للترجمة والتواصل والتعلم مع أنه سبق في زمن الخليفة العباسيِّ أبو جعفر المنصور الذي ترجمت له كثيرٌ من الكتب، كما أنَّ أول ترجمة مهمة في العالم الغربي كانت من الكتاب المقدس العبري في القرن الثالث. حيث احتاج اليهود الذين نسوا لغتهم العبرية حين ذابوا في مجتمعات أخرى – احتاجوا لترجمتها إلى اليونانية، لذلك تم تكليف 70 مترجماً لإكمال مشروع لترجمة الكتاب المقدس من العبرية إلى اليونانية.
وبهذا تعرَّفت الحضارات على علوم بعضهم البعض وتجاربهم وتعلموها ومن ثمَّ طوَّروها.
أهميَّة التَّواصُل
قد بينَّا أساليب الحكومات في تفرقة الشعوب وهكذا وبمرور أجيالٍ متعاقبة تصبح هذه الخلافات عاداتٍ اجتماعيَّةٍ تترسَّخُ في عقلية الأجيال وتصبح العداوة والعنصرية أمران متشعبان وكبيرتان يصعب القضاء عليها،
إنَّ مفهوم التَّواصل وتأريخه ودور التَّرجمة لما لهما من أهميةٍ وقدمٍ في تطوُّر الحضارات وعمادها يمكن أن نعتمده لبناء مجتمعٍ سليمٍ معافاً من العنصرية.
فالعنصرية مرضٌ إجتماعيٌّ مميتٌ لنسيج كلِّ المجتمعات القائمة على التَّنوُّع وسبب ضعف ودمار المجتمع والدولة برمَّته، فلا يمكنك أن تجد الرَّاحة والنَّجاح في بيتٍ كلُّ أفرادهِ متخاصمون، ومتى ما وعينا خطر هذه العنصرية المدمِّرة على كلِّ القوميَّات، وأدركنا أهمية التواصل فيما بينهم كان لزاماً علينا مدَّ الجسور بين القوميَّات المصارعة والإستماع إلى وجهات النظر المختلفة ومناقشتها وردم بؤر الخلاف والتناحر وذلك بالإصغاء إلى الآخر المختلف والتقارب بالجلوس وجهاً لوجه في طاولةٍ مستديرةٍ وبأسلوبٍ ممنهجٍ وعلميٍّ بعيداً عن العاطفة وشرح نقاط التشابه والتَّقارب بين كلا القطبين او الطرفين المختلف ووضع نقاط الاختلاف ومناقشتها بشفافية والإعتراف بأنَّ الخلاف إنما هو أمرٌ طبيعيٌّ وصحيٌّ لدواعي التميز والتَّنوُّع وليست للتفاضل والتَّنمُّر وترسيخ ثابتةٍ مفادها أنه لا يوجد قوميةٌ أو أمَّةٌ في العالم بدون تاريخ فلم يأتي احد من كوكب آخر بل كلُّهم عاشوا على هذه الأرض وتطوروا وتركوا آثارهم على الأرض.
إنَّ كلَّ شعبِ على هذا الكوكب يمتلك تأريخاً وثقافةً وبحضارة، ولزامٌ علينا الإعتراف بهم وبدورهم الحضاريِّ في مسيرة الإنسان وبتاريخهم وثقافتهم وعدم المساس بهذا الشيء أو إنكاره عليهم لأنك أن انكرت عليهم أنكروا عليك وهكذا.
إنَّنا نواجه عنصريةً عُمرُها عشرات الأعوام، عملت الحكومات على زرعها في النُّفوس والعقول عبر اشاعاته وأجهزة إعلامه وكتبه المؤدلجة، لذلك نحتاج لعشرات ومئات من الجلسات الحواريَّة مع بعضنا البعض لنتعرف على كوامن الخلل، ويشرح كلُّ طرفٍ مشكلته وتأريخه وهويَّته لنتقبل بعضنا البعض ونعالج هذه الخلافات والتي قد تستغرق أعواماً وأجيالاً إن نحن تجاهلناها أو أدرنا بظهورنا لها بل يجب أن يتمَّ وضع أسسٍ للتعارف والتواصل وبذلك سوف نصل لمجتمع خالٍ من آفة العنصرية ومستقبلاً واعداً تنتظر مجتمعاتنا في الغد القريب.