حَيُّ المِفتي قِصَّةُ حارةٍ تختزلُ تأريخ أمَّة
قرية المفتي أو حي المفتي أو بالكوردي (GUNDÊ MIFTÎ) أو( گوندي مفتي) أحد أقدم الأحياء السَّكنية في محافظة الحسَكة السُّورية، والتي كانت في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم مجردَ أراضٍ زراعيةٍ خِصبة، وسهولٍ خضراءَ تجري في كنفاتها سواقي وقنواتِ الرَّي الإسمنتيَّة، والقادم من نقطة مرور نهر الجغجغ بقرية (صفيا) لتروي معظم المزروعات الخضراء من قمح، وشعير، وقطن، وكانت حينها صالحة للشرب مما جعلتها وجهة ملائمة للسَّكن قصدها الناس لتشكيل بؤرة لأولى التجمعات السُّكانية المترابطة دوناً عن بقية الأحياء المتناثرة بالمحافظة حينها.
الموقع الجغرافي
يعتبر حي المفتي اليوم واحدةً من أولى التجمعات السُّكانيَّة في المحافظة حيث يَحِدُّهُ من الغرب نهر الجغجغ ومن الشَّمال قرى وأراضي خشمان ومن الجنوب حيِّ العزيزية ومن الشرق حيُّ الصالحيَّة في تداخلٍ واضح بينها وبين حي المفتي بحيث يصعُب التمييز بينهما وذلك للكثافة السكانية الهائلة وعدم وجود أي تضاريس تفصلها عن بعض.
لماذا حيُّ المِفتي؟!..
إنَّ معرفة كيفية نشوء هذا الحي وتسليط الضوءِ على واقعهِ المرير في الماضي، وكيف أنه استطاع بمعزلٍ عن تدخل الدولة، والتنظيمات الإدارية، ومجالس الإدارات المحلية، والبلديات المتعاقبة لصالح واقعهِ المعاشي والعمراني في ترك بصمة واضحة المعالم على المحافظة ككل تختزل قصة كل الأحياء الكوردية بشكلٍ عام في الجزيرة السورية من الماضي إلى الحاضر.
سبب التَّسمية
يعود سبب تسمية هذا الحي نسبةً إلى الشخصية الدِّينية المعروفة والمرموقة حينئذٍ والذي بنى أولى لبناتها بين أعوام 1954 – 1958 السيد الشيخ أحمد عبد الرحمن عبد العالي الحسيني من العشيرة الكوردية الأومرية(المرمارية) مفتي محافظة الحسكة قادماً من ناحية الدِّرباسية مع البعض من تلاميذه ومريديهِ في الطريقة النقشبندية و القادرية والذي تم تعيينه بموجب مرسوم من رئيس الجمهورية السورية آنذاك السيد أديب الشيشكلي ذوي الأصول الكوردية كذلك.
ومن الجدير بالذكر أن القرية كانت تُكنَّى بالأحمديَّة نسبة إلى إسم المفتي نفسه قبل اعتمادها شعبياً ومن ثم رسميَّاً إلى قرية المفتي وبعدئذٍ إلى حي المفتي.
نبذة تاريخية
إذا كان التَّاريخ يكتبهُ الأقوياء، فإنَّ تاريخ الأمة الكوردية لم يكتبهُ فقط الأقوياء، بل لم يُكتب قطُّ، وكانت الغاية منه ليس إضاعتهُ أو شطبهُ من الأذهان, بل كانت الغاية منه إمحاء وجود أمَّة بكاملها تكريساً لإتفاقية (سايكس بيكو) السيئ الصيت.
لقد كانت ملكية الأرض الأساسية في محافظة الحسكة تعود في الأصل إلى عائلة “حَسْكيْ” أو “حسچي” الكوردية الأيزيدية، والتي تم تهجيرها تحت الضغط العثماني ( من سنجار العراقية إلى هذه المدينة ).
بعض الوثائق محفوظةٌ في دوائر العقارات العثمانيَّة، وملكية أراضي الحسكة حسب تلك الوثائق تعودُ إلى” آل حسكي” الأيزيدية التي من المُحتَّم أن يكون اسم المحافظة مستقاة من اسم هذه العائلة وليس كما يروجه دعاة التعريب الديموغرافي من أنها مستقاةٌ من اسم نبتة الحسك الموجودة على ضفاف نهر الخابور.
وقد تم تزوير وثائق هذه المدينة لصالح العشائر والمُكوِّنات الأخرى غير الكورديَّة والقادمين من مدينة ماردين التركية والأنبار والموصل العراقيَّة، وذلك بسبب مواقف الكورد المناوئ تحديداً من الإستعمار الفرنسي واندلاع ثورة بياندور 1923ضده بعد إعدام الشهيد الآغا( عباس محمد عباس ) على يد الضَّابط الفرنسي (النقيب روغان )في ثكنة بياندور بمنطقة سنجقا آشيتيا التابعة لمنطقة القامشلي حيثُ حوصرت “بياندور” مدّة ثلاثة أيّام بلياليها في وقتٍ نفدت مؤونة الجند، لا سيما الماء الذي كانوا بأمس الحاجة إليه، وكان الثُّوار الكورد والبعض من فرسان عشيرة الطَّي العربية يسيطرون على منابع الماء، وكان عددُ الفرنسيين يزيد على المئتين، بالإضافة إلى ستَّة عشرَ دركيَّاً من الشرطة، وقد قُتل من الفرنسيين حوالي 80 جنديَّاً، وثلاثة ضباط؛ هم( روغان وكاريل وروبرتو).
أعقَبَت هذه الأحداث تحركاً للقوات الفرنسية باتجاه سهول “الحسكة” ذات الكثافة السكانيَّة القليلة حينئذٍ وبنائها أوَّل ثكنةٍ لها هناك في موقع سوق الهال القديم سنة 1932 وتوزيع الأراضي الزِّراعيَّة من عقاراتِ “الحسكة” على الموالين للوجود الفرنسيِّ من بعض المُكوِّنات الأخرى “غير الكورديَّة” والذين كانوا وقتئذٍ مجرَّد أقلِّيةٍ وفق الوثائق الفرنسيَّة نفسها، وتسجيل معظم الأراضي الزراعية بأسمائهم ومنها الأراضي الواقعة ضمن أحياء المفتي والصالحية وتل حجر والعزيزية والناصرة والنشوة وتغييرها في دوائر السجل العقاري والطابو وذلك كردَّةِ فعلٍ انتقاميةٍ عقب ثورة “بياندور” ذاتِ الصَّبغة الكورديَّة في عدد المُنتفِضين في وجه الإستِعمار الفرنسي بالمنطِقة.
إنَّ فكرة الإعتِمادِ على الأقليَّات لإدارة وحكم المناطق التي استعمرتها كلٌّ من فرنسا وبريطانيا العظمى كانت تُشكِّل سياسةً ممنهجةً لهُما لزعزعة المنطقة، وضرب مُكوِّناتها ببعض، وذلك بهدف دُخولِهما من نوافذ التَّدخُّل السَّافِر في شؤون هذه الدُّول بعد أن تكون قد خرجت علنيَّاً من أبواب الجلاء وانتهاء حقبة الإستِعمار.
وحتى عام 1966 كان موقع حي إغويران الحالي تسمى المقبرة البيرتية ( نسبة إلى العشيرة الأومرية الكوردية المعروفة ) ، و تسمية إغويران جاءت من الكلمة الكوردية (آخ ويران ) و تعني الأرض أو التربة القاحلة الجرداء.
حي المفتي وبداية النَّهضة
أسس الأهالي بجهودهم الفردية أول مدرسة طينية في الحي وذلك بعزيمة المدعو صالح آلوجي الذي حول منزله إلى مدرسة لتلاميذ الحي سنة 1972 تحت اسم مدرسة الأحمدية بداية ثم مدرسة المفتي المحدثة وبقيت هكذا إلى أن تمَّ تأسيس أول مدرسة نموذجية سنة 1985 وأطلقت عليها اسم مدرسة الشهيد (عبد الله القادري)نسبة الى أحد أبطال حي المفتي الذين استشهدوا في تكريس السِّلمِ الأهلي في دولة لبنان عام 1982م.
هذه المدرسة التي رسمت الطريق لتشكيل نُخبٍ ثقافيةٍ متميزةٍ في الحي وتتويج البعض منها بشهادات عالية الدرجات والكفاءة وعلى مستوى سوريا ككل وفي الميادين كافَّة.
كما أنَّ الأهالي قاموا من قبل بتشييد ثلاث جوامع فيها وعلى نفقتهم الخاصة بدءاً من(الجامع الكبير ) والتي كانت تحد منزل السيد المفتي في الستينيات ثم تلاها بناء( جامع الصوافي) ثم جامع( سيدنا بلال)، كما ساهموا بجهودهم الفردية وعلى نفقة المحسنين من تشكيل شبكة للصرف الصحي ضمن الحي ثم تشييد جسر صغير يربط حي المفتي بحي تل حجر المجاورة بعد أن دفعت بخيرة أبنائها غرقاً في نهر الجغجغ وعلى مرأى ومسمع من السلطات التنفيذية والإداريَّة.
عدد السُّكان
بلغ عدد سكان قرية المفتي أواخر سنة 1958 ثلاثة عشر عائلة فقط ثم سرعان ما بلغت أضعاف أضعاف هذا الرقم بشكل قياسي في الأعوام التي تلتها مقارنة بالأحياء الأخرى مما استدعت السلطات الشوفينية بالمحافظة لتهميش هذا الحي على وجه الخصوص مقارنةً بالأحياء الأخرى وإهمالها بشكلٍ كاملٍ من النَّواحي الصحيَّة والثقافيٍَة والإتِّصالات خاصةً بعد قيام السُّلطات السُّوريَّة بإصدارِ المرسوم الجمهوري التشريعي رقم (93) في 23 أغسطس/آب 1962 في سوريا في عهد رئيس الجمهورية ناظم القدسي ورئيس مجلس الوزراء بشير العظمة والمتضمن قراراً سياسياً بإجراء الإحصاء الاستثنائي للسكان الأكراد في منطقة الجزيرة لتحديد هوية المواطن وتحديد الأكراد الأجانب فقط دون العرب والمسيحيين القادمين من مدينة ماردين التركية والأنبار أو الموصل العراقية وتصحيح السجلات المدنية وفقاً لذلك.
واستند المرسوم المذكور على المرسوم التشريعي رقم (1) والمؤرخ في 30/4/1962 وعلى القرار الصادر عن مجلس الوزراء رقم (106) والمؤرخ في 22/8/1962.
ماذا تضمن المرسوم الذي بات يعرف حالياً باسم “إحصاء الحسكة 1962″؟
- يجري إحصاء عام للسكان في محافظة الحسكة في يوم واحد يحدِّد تاريخهُ بقرارٍ من وزير التَّخطيط بناءً على اقتراح وزير الدَّاخلية.
- عند الإنتهاء من عملية إحصاء السكان، تشكل لجنة عليا بمرسوم جمهوري بناءً على اقتراح وزير الداخلية لدراسة نتائج الإحصاء، وتقرير تثبيتها في سجلات الأحوال المدنية الجديدة أو عدمه، وإعداد التعليمات لذلك.
الإحصاء
جرى الإحصاء في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1962 ونجم عنه انقسام الأكراد في سوريا إلى:
- أكراد متمتعين بالجنسية السورية.
- أكراد مجردين من الجنسية ومسجلين في القيود الرسمية على أنهم أجانب.
- أكراد مجّردين من الجنسية غير مقيدين في سجلات الأحوال المدنية الرسمية، وأطلق عليهم وصف مكتوم القيد وهو مصطلح إداري سوري يشير إلى عدم وجود الشخص المعني في السجلات الرسمية.
ويشمل المكتوم بالإضافة إلى الفئة السابقة كلا من:
- من ولد لأب أجنبي وأم مواطنة.
- من ولد لأب أجنبي وأم مكتومة القيد.
- من ولد لأبوين مكتومي القيد.
وكما كل الأحياء الكوردية باتت حي المفتي تشهد شرخاً إجتماعياً جائراً وتقسيماً سكانيَّاً فاضحاً بين أبٍ يتمتع بالجنسية وعمٍّ متجردٍ منها وابن خالٍ مكتوم القيد وأراضٍ فيها مسجلة بإسم وافدٍ آخر لكنه يتمتع بالجنسية العربية السورية في وثائق الدَّولة.!!!
ومع أنه لم تجرى إحصائية رسمية بعدد السُّكان في هذا الحي كالتي جرت في أحياء دوما وحرستا الدمشقيتان إلا أن النِّسب التقديريَّة لعدد قاطنيها تشير في أواخر العام 2010 أي قبل أحداث الثورة السورية إلى ما يزيد فوق الخمسين ألف نسمة معظمهم من العشائر الكوردية المعروفة ومنها:
الأومرية ( البيرتية والتَريَّة والسيتيَّة والمرسكيَّة والكوركية والكاف سنورية والآلوجية)، القرة كيجية، البادينية، الحبزبنية، الكابارية، الشكاكية، الدقورية، الهسارية، الملّان، داري، الكيكان، والگرگرية وعشيرة الشرابين العربية.
حي المفتي اليوم 2022
بعد الأزمة السورية وفي الأعوام التي تلت الحرب ومنذ العام 2011 شهد حي المفتي كما بقية الأحياء الأخرى نزوحاً منها وإليها وباتت تشهد تغييراً واضحاً في ديمغرافيتها وتركيبتها السكانية ولكنها بالرغم من كل الدمار العمراني والإجتماعي والإقتصادي والفكري التي اعترت سوريا بشكل عام، والحسكة بشكل خاص، إلا أنها استطاعت أن تنفض عن نفسها غبار الحرب وعجاجها، وتنهض من رمادها كما طائر العنقاء بعد أن وجدت نفسها محرَّرةً من قيود القرارات التنظيميَّة التي كانت تكبحُ مسيرةَ أبنائِها في التَّقدُّم والعمران، حيث باتت تعتبر اليومَ درٌّة الأحياء في( محافظة الحسكة )و أكبرِها مساحةً وأكثرِها كثافة، حيث شهدت تطوراً عمرانياً لا مثيل له، ونموَّاً اقتصادياً ملحوظاً، وذلك بفضل جهود أبنائها الَّذين فضَّلوا البقاء في كنف موطنهم على النزوح والتغرُّب، وتحريك عجلة الإقتصاد عبر تحويل الحيِّ إلى أشبه ما يكون بسوقٍ كبيرٍ تتوافدُ عليه أبناءُ كافَّة الأحياءِ الأخرى فضلاً من اكتفائها ذاتيَّاً بكلِّ مستلزمات العيش في صورة أشبه ما تكون ببداية نهوض مدينة أربيل الكوردستانية لتبقى شاهدةً على صمود أبنائها الأُصلاء، وهويتهم المتجذِّرة في الماضي والحاضر وربما رسم ملامح المستقبل في سوريا الغد .