ما بين الموت والحياة
جلس أمامي كمن أجمع كل قواه ولملم أشتاته ليقدر على الكلام أو ربما ليقدر على الصمت؟! لم أدرك تماماً حينها المعنى الحقيقي لتلك النظرات الجامعة ما بين الحزن والفرح و الخوف والقلق ما بين الصراع على البقاء أو الاستسلام للرحيل “ما بين الموت والحياة” وبمعنى أصح بعدها أدركت تلك الحقيقة التي لم أدركها للوهلة الأولى وهي “المعنى الحقيقي للموت ما بعد الحياة”.
بدأ يبادلني الكلام و يشاركني أطراف الحديث كنت أقرأ عيناه المليئة بالمشاعر المندمجة الغريبة يصعب وصفها، كنت أقرأ في نظراته ما يعجز لسانه على قوله، وأشاهد بملامح وجهه صوراً مؤلمة لم ترسمه ريشته بعد لكنها رسمت بأعماقه و حفرت تضاريسها في عقله، وتلك الدموع التي أخفاها بطرف عينيه لمعت فيهما رغم كل محاولات الإخفاء، ولما بدأ بسرد الأحداث محاولاً أن يربطها بسلسلة مترابطة لكنها كانت ما بين الواقع والحلم، ما بين الحقيقة والوهم، مابين الصحو والنوم، والشيء الصادق الوحيد الذي جمع بين كل هذه الحالات كان الألم.
الألم الذي لطالما رافقه وكان سبباً في وقوعه ووقوفه، نعم حين يكون الداء والدواء حين يقولون داويها بالتي كانت هي الداء، وبدأت ذبذبات صوته بنبراته الحزينة المؤلمة إلى حد الوجع تخترق فؤادي وتهز كياني وأسمعه بصمت وهو كلما صمت وتوقف سمعت صراخاً قوياً خرج من صمته، حتى بدأت أكلم صمته بصمتي ووجعه بوجعي على ما أوجعه، يتحدث عن تلك المعاناة التي عاشها في العناية المشددة ما بين الوعي والإغماء، الواقع المرير الذي يحكم عليك بالموت وأنت مازلت على قيد الحياة. كيف تكون في غيبوبة وأنت لا تشعر بجسدك فهو ثقيل ولا يتحرك وقلبك ينبض يطلب المساعدة وما من مجيب!. الأصوات التي يسمعها: “إنه أخطر مرضانا. ” تخيلت تلك الجملة ربما قتلته لولا أنه يملك الإرادة الأقوى منها، ربما كانت لتكون الجملة التي أودت بحياته لو كان ضعيفاً.
اللحظة الحاسمة التي جعلته يفكر مراراً ويتذكر من أحبوه و ينتظرون عودته، وهو لم يتذكر سواهم و ركز على البقاء لأجلهم ولأجل حزنهم على فراقه، نعم جمع كل حبه وقواه وإرادته وركز على أمر عودته إلى أحبته، وحقاً فعلها رغم كل الصعاب تحداها وما غفت له عين من خلف طبقة الأجفان، ويتكلم ويتكلم حتى اندمجت بالكلام و ذهبت معه الى خلف تلك البيبان و عشت معاناة من هم خلف القضبان و كيف للانسان أن يكون في سكرات الموت وهو يرى نفسه يطير بلا جناحين.
ورغم الحديث الشيق بمشوار عذابه كان ما بين الصمت الناطق واللسان العاجز والعيون الدامعة، حتى لم ينتهي الحديث وربما لها تتمة معلقة بين السماء والأرض كما تعلق ذاك الروح مابين الجسد والروح اللذان توحدا بحب صادق يستحق العودة لأجله ويستحق التحدي والبقاء وهو مدرك تمام أنه يملك قلباً غير قلبه ينبض مكانه حين يتوقف قلبه وعيناها اللتان ستسهر على مراقبته و تدمع لخوفها أن لا تراه مرة أخرى.
وأصعب مافي الأمر أو أصعب ما ختم به كلامه دون التعمق في الصدمات التي تلقاها مثل الصاعقة: الموت ليس صعباً.. ليس مخيفاً.. ليس مرعباً.. الموت أسهل وأبسط مما توقعناه.
إنك تغمض عيناك على آخر ما تراه وتنام حتى تذهب في نوم عميق لا تشعر بشي لو كانوا يقطعون في أشلاء جسدك، لكن السؤال الذي كان جوابه المعنى الحقيقي للموت،
هو ماذا بعد الموت؟!
بعد العودة من الموت إلى الحياة؟!
إنها المرحلة التي تتطلب منك كل النتائج التي حصلت معك وقبلها رغم كل فظاعتها
إنها المرحلة التي تطلب منك الصمود و المواجهة وأنت صاحي فاتح العينين و تحمل الأوجاع.
وهو الإمتحان الأصعب إما البقاء والنهوض مهما كان
أو البقاء والرحيل رويدا رويدا
إنها الحقيقة المرة.
العودة الى الحياة من الموت أصعب من الموت .
والموت في العناية المشددة أصعب من العودة منها الى الحياة
كلمات تكررت الموت .الحياة. العناية المشددة.
كانت حالة ذاك الإنسان الذي كان في عالم و يرى نفسه يحتضر مرة و ميت مرة وعاد عاش مجددا لكنه يعيش سكرات الحياة التي باتت أصعب من سكرات الموت:
نقطة الوصل مابين الموت والحياة نفس
نقطة الوصل مابين الألم والكلام همسة
نقطة الوصل مابين القوة والضعف لمسة
نقطة الوصل مابين الارض والسماء نظرة
نقطة الوصل مابين الانعاش والعناية المشددة صرخة
نقاط الوصول مابين اللاقي والمتلقي مصير حياة او موت
كونوا أناس يحملون معنى الإنسانية يرحمون بعضهم حتى يرحمهم من في السماء ومن يثق بالله ويؤمن بقدرته ومن به روح لم يأمر رب العالمين بأخذه لن يستطيع أحد على أخذها، والأقدار تكتب نعم لكن شيء واحد يغير أقدارنا الدعاء و من القلب وسبحان الذي يغير ولا يتغير.