زرياب – صفحات ضائعة وهوية مغيَّبة
يُمارَس التَّزويرُ أمامَ الأضواءِ أحياناً، لكنها في معظم الأحوالِ تُحاكُ في الخفاء، دهاليزها مظلمة، وأقبيتها معتِمة، وأساليبها في معظم الأحيان قذرة.
يُحاول المضلِّلون والمزوِّرون ما أمكن من صناعة الأدمغة والعقول عبر غسلها في ماكينة تصوراتهم، وعلى مقاس التاريخ الذي يجب أن يكون وفق منظورهم ضاربين بعرض الحائط ما هو واقعٌ أو كائن.
هؤلاء المتلاعبون بالعقول بكلِّ منهجيةٍ وإبداع يستحقون من النَّاحية المهنيَّة كلَّ إعجاب حتى وإن كانوا من الناحية الأخلاقيَّة يستحقون كل احتقار.
في سطورنا القليلة سنحاول ما أمكن أن نحرر تلك الشَّرنقة من خبئها المظلم إلى حيث آُفُق الهواء الطلق، ولا أقلَّ إذاً من وضع حدٍّ فاصلٍ بين ما يراد لنا أن نعرف، وما يجب أن نعرفه بالفعل.
ولعل حديثنا عن “زرياب” الفنَّان الذي تم تغييب هويته الكوردية عمداً في المكتبات العربية ومساهمته بوضع اللبنة الأولى للموسيقى العربية نفسها والأوربية لخيرُ دليلٍ وشاهدٍ على ما نتحدث عنه.
قصة زرياب وما أدراك ما زرياب تستحق التفتيش في تفاصيلها عن ذلك الإنسان المتألق و الذي كان ملهماً لأبناء عصره حينما تأبط عودُهُ ورحل عن بغداد خوفاً من التصفية الجسدية ليتنقل بعدها في الأمصار إلى أن طاب له الحل في بلاد الأندلس التي كانت آنذاك منارة للحضارة والثقافة والعلم، ولعلَّه من اللباقة أن نستأذن زرياب في التوقف على مراحل مهمة في حياته بعدما كان هو أوَّل من أدخل إلى الأندلس وعلَّم أهلها فنَّ التلطُّف والإيتيكيت والبرستيج في المظهر والمخبر والملبس.
وُلِد زرياب (معناه ماء الذهب في اللغة الكوردية) علماً أن بعض المصادر العربية أرجعت سبب تسميته إلى طائرٍ أسود حسن الصوت في مدينة الموصل شمالاً عام 777م. وزرياب لقبه وليس اسمه وهو علي بن نافع المكنّى بـ أبو حسن الموصلي .
يبدأ نجم زرياب بالظهور حين يطلب هارون الرشيد ذات يوم من إسحاق الموصلي (وهو كوردي يهودي متأسلم) أن يأتي له بمغنٍ جديد، فأحضر الموصلي له زرياب، وعندما غنى زرياب لهارون الرشيد أخذتهُ الإنبهار بصوته كل مأخذ، ذلك الصوت العذب الذي يخرج كأنه مجموعة من الآلات الموسيقية المتناسقة والمنسجمة، و لذلك عبر هارون الرشيد عن إعجابه الشَّديد بهذا المغني الجديد و طلب من إسحاق أن يهتم به مما أثار الغيرة و الحقد في قلب إسحاق اتجاه زرياب و هدده مراراً إن لم يخرج من بغداد بأنه سوف يقتله.
كان ذلك كارثةً كبيرةً حلّت بزرياب، فهو الذي وجد كل تكريمٍ و رفاهٍ و طيبٍ من بغداد الرشيد التي أحبها بكلِّّ جوارحه، وهو القريب من الخليفة والأمراء، لكنه كان أمام مكائد ابن جلدته إسحاق وحسده يقف حائراً تنقلب بهجته غمّاً وخوفاً!!.
في ذاك الزمن لم تكن في العالم سوى مركزين للحضارة هما بغداد العبّاسيين وقرطبة الأمويين، لذلك لم يفكر زرياب بالعودة إلى الموصل التي لم تكن المكان الذي يجد فيه ضالَّته.
ترك زرياب بغداد والألم يعتصر قلبه وإتجه غرباً يمضي نحو مصر، فإلى المغرب، حتى عبر الأندلس، قصد زرياب قرطبة، مختبراً حظَّه العاثِر في باحة قصرِها الأمويِّ، عند عبدالرحمن الثاني إبن الحكم إبن عبدالرحمن الداخل؛ فكتب إليه يستأذن الأمير (كانت قرطبة عاصمة للأمارة الأموية وتحولت إلى خلافة في زمن عبدالرحمن الناصر)، فرحب به الأمير عبدالرحمن الثاني.
بدأ زرياب بالغناء وعزف الموسيقى فأدهش عبدالرحمن الذي أحبه وقرّبه إليه حتى صار جزءاً من حاشية الأمير بقرطبة، وبدا زرياب محظوظاً هذه المرة فلم يكن بصحبة إسحاق حتى يسحق فرحته.
أسَّس زرياب مدرسة للموسيقى يعلّم فيها الناس فنون الغناء والموسيقى، وقام بإبتكاراتٍ جديدةٍ في عالم الغناء والألحان، وأسَّس أوَّل معهدٍ لتعليم الموسيقى في أوروبا، وكان أوَّل من جمع العازفين بمختلف آلاتهم الموسيقية في فرقة موسيقية واحدة، وكان أول من أسس للكورال الغنائي الجماعي، وإبتكر المواويل التي تسبق الأغاني عادةً، وهو أول من خرج من تحت معطفه فن الفلامنكو حيث يمكن للمرء أن يلتقط بسهولة أصداء الموسيقى المغربية والشرقية في مقامات وغناء الفلامنكو التي تعود أصولها إلى ما أسسه زرياب من أصول موسيقية أندلسية تداخلت مع الفلكلور الموسيقي الإسباني بتلويناته المتنوعة وترسبت في طبوعه ومقاماته، وفيما بعد ارتحل الفلامنكو بشكله الحديث إلى العديد من الدول اللاتينية في أمريكا الجنوبية مثل الأرجنتين، وكولومبيا، وغيرهما.
لقد ابتكر زريات كذلك فنَّ الموشحات الأندلسية وجعل مضراب العود من قوائم النسر بدلاً من الخشب، وهو الذي وضع قواعد لتعليم الغناء للمبتدئين، وابتكر الغناء بالنشيد قبل النقر، وأدخل مقامات جديدة في الغناء لم تكن معروفة قبله، والأهم من ذلك هو أنه أول من أضاف الوتر الخامس إلى العود.
لقد كان كوردية زرياب تغلب على كل موسيقاه وتترك بصمةً واضحة جدًا في أسماء المقامات الموسيقية التي كان يبتكرها ، فقد كان يصرُّ على أن يطلق عليها مصطلحات وأسماء كوردية بلغته.
لم أكن أعرف شيئاً عن الشعب الكوردي إلا عندما قمت بالبحث عن نشأة الموسيقى الشرقية و تطورها و عندما اطلعت على مخطوطات الموسيقي الكوردي المعروف ( زرياب ).
و زرياب رغم تمكنه من اللغة العربية إلا أنه أستخدم أغلب المصطلحات الموسيقية باللغة الكوردية ناهيك عن أسماء المقامات الموسيقية التركيبية و فروعها.
فالسلَّم الموسيقي و أسماء العلامات الموسيقية كانت بالكوردية : يكگا، دوگا، سيگا، چارگا، نوا…. تعني العلامة الأولى، الثانية، الثالثة و الرابعة ….
أما الوتر الأخير اسماها گريدان ( GIRÊDAN)، أي الربط باللغة الكوردية والتي تعني اوكتاف كامل من القرار إلى الجواب والربط بين علامة اليكا في القرار مع الگريدان في نهاية الأكتوف أو السلم الموسيقي.
بالنسبة للعلامات الرئيسية كانت تسمى مال MAL، و الفرع بيمال (BÊMAL) ثم تم تحريفها و قالوا بيمول!. وعلامة دييز، جاءت من كلمة دو آواز (DUAWAZ).
هذا بالإضافة إلى أنه طور بعض الآلات الموسيقية و كان يعزف على الكثير من الآلات الموسيقية و منها الطمبور الكوردي ذي الوتين.
أسماء المقامات الموسيقية التي وضعها زرياب:
مقام الراست (RAST) وتعني بالكوردية المستقيم أو الأساس، لأنها سيد المقامات كما يُقال وهو المقام الرئيسي في السلم الشرقي.
وغيرها الكثير من المقامات الموسيقية الأخرى وكان يُصرُّ على وضع أسماء كوردية على مقاماته وإضافة كلمة كورد إليها كعلامة فارقة تدل على أن مبتكرها كوردي الأصل وينتمي إلى القومية الكوردية حتى يخلِّدها التاريخ وأن ترتبط الموسيقى بإسم الكورد كدليل على أن الكورد هم من أسسوا للموسيقى العالمية وأنهم لم يكونوا يومًا عالة على التَّاريخ، بل كانوا جزءاً مهماً من صانعي الحضارة الإنسانية.
لم تقتصر موهبة زرياب على الموسيقى والغناء فحسب، بل كان يروي القصص والأساطير، وحكايا الملوك والخلفاء، وأدخل لعبة الشطرنج لأوَّل مرة إلى الأندلس فتجمَّع الناس حوله وتعلقوا به وأحبوه.
لقد سجَّل التاريخ الأسباني في العديد من مصادره أنَّ زرياب كان أول من أدخل في الأندلس موضة الملابس، فجعل لكل فصل لباسه، ولكل مناسبة أزياءً مختلفة، ثم نشر فكرة التنوع في الطبخ والأطعمة.
لا شك أن أوروبا كانت تعيش فيما أسمتها هي (عصور الظلام) مع العلم أن أندلس كانت مركزاً حضارياً كبيراً في تلك الحقبة، لكن العنصرية الأوروبية حينذاك كما هي واضحة لم تعتبر مرحلة الأندلس عصراً للنهضة والتنوير!!..
ففي مكتبة قرطبة كان هناك نصف مليون كتاب، ما عدا المكتبات الشخصية للأمير ورجال الدولة والعلماء، وكانت الشوارع مبلّطة بالحجر، وتستضاء ليلاً بالأنوار، وترفع قماماتها، واقترب عدد السكان من المليون.
وبالطبع وفي ظل إهتمام الأمير والدولة بزرياب ، انتشرت فنون الموسيقى والغناء في كل البلاد ، وبمرور الزمن انتقل هذا التراث إلى أوروبا التي تقرُّ اليوم (في ما يبدو كمصالحة مع الذات والتأريخ) بهذا العرفان والشكر للأندلس ولزرياب على وجه الخصوص في ما يخص فنون الموسيقى والغناء والموضة وعلوم الذوق والإتيكيت.
دوره العظيم في الموسيقى
ذكر المؤلف والموسيقي الفرنسي كريستيان بوشيه في كتابه الصادر مؤخراً عن دار ريفنوف للنشر تحت عنوان “زرياب تاريخ واسطورة” إنَّ الدور العظيم الذي قدمه هذا العملاق المبدع زرياب لم يكن محصوراً في الموسيقى العالمية فحسب بل تجاوزه حينها للارتقاء بالذوق العام في البلاد، حيث وصفه بأنه الرجل الأنيق في عباراته وطعامه ولباسه وقيامه وصمته وحديثه، فكان يلفت الأنظار إلى طريقته في الجلوس إلى المائدة أيضاً ، فكان مثالًا للأناقة حتى غدا قدوة في الزَّي والمظهر، وكان مثالًا في التجديد لطرق المعيشة ، فهو الذي علمهم كيف يفرقون شعورهم في وسط الرأس ويعقصونها من الخلف حتى يظهر العنف ويبدو الجبين بعد أن كانوا يرسلون الشعر فوق الجبهة والأصداغ، وهو الذي استن لهم لبس الثياب البيضاء والملونة الخفيفة في الصيف، والفراء والأردية الثقيلة في الشتاء، وهو الذي نقل إليهم كثيرًا من طرق الطهي وتصفيف الموائد ومظاهر التحضر، وهو وحده الذي نقل أحسن الأقمشة وأزهى الألوان من بيوت الخلفاء إلى بيوت النبلاء فكان بحق سفير السلام وأيقونة الجمال والذوق ورسول المحبة.
كما ويُعتقد أنه أول من استخدم ما يشبه معجون الأسنان الآن في تنظيف أسنانه، دون أن يُعرف إلى الآن محتوياتها، وهو الذي علّمهم فن التجميل والعناية بالبشرة ونظافة الجسد والبدن، حيث يعد أوّل من استخدم مساحيق ومركبات لإزالة رائحة العرق، ومنه تعلَّم الناس أناقة الملبس وتنويعهِ بين أوقات اليوم صباحًا ومساءً، وبين الفصول الأربعة وتقلبات الجو المختلفة، كلبس الثياب الخفيفة القاتمة الألوان في الربيع، والملابس البيضاء في الصيف، والمعاطف والقبعات التي من الفرو في الشتاء.
لقد غطى المؤلف كريستيان بوتشيه شخصية وعبقرية زرياب إنسانياً وفنياً من منظور رحلة حضارية شيقة، واصفاً حياة الخلفاء والأمراء الأمويين والعباسيين وعاداتهم وحفلاتهم، ومتوقفاً عند إسهام زرياب أو أبو الحسن علي بن نافع بهويته الموزعة بين المحيط الذي عاش فيه وهي الانتماءات الكوردية والفارسية والعربية والأوربية – وهو الأمر الذي زاد من سحره، وغذى مخياله.
ولا أظنُّ القارئ سيتساءل عن حقيقة أصله ونسبه وهويته الكورديَّة بعد أن علم أنَّ هوية زرياب تفوح من كل مقامٍ أو سلَّمٍ موسيقي وبشهادة النقاد والكتَّاب المنصفين.
وهذا ما تخبرنا به المستشرقة الألمانية الدكتورة زيغريد هونكه في كتابها المعروف (شمس العرب تسطع على الغرب) في الصفحة رقم 488 عندما تقول:
كان الفتى الكوردي زرياب ألمع تلاميذ مدرسته.
برع من الأكراد رجالٌ أفذاذ، تركوا بصماتهم على التأريخ، في مجالات شتى وساهموا مساهمة كبيرة في ظل الدولة الإسلامية، على الصعيد السياسي والعلمي والثقافي فخرج من بين الكورد إبن صلاح الشهرزوري، الحافظ العراقي، صلاح الدين الأيوبي، إبن خلكان، إبن تيمية، إبن الأثير، الدينوري، أبو الفداء، إبن شداد، إبن فضلان، والجزري والمئات من شخصياتٍ خدمت منطقتنا وحضارتنا خدمات جليلة وعظيمة ومنهم كذلك زرياب ذلك الإسمٌ الكبير في التأريخ الشرقي والغربي، على صعيد الفن والموضة، فتراثه الذي أثر في الأندلس أيّما تأثير، وأصبح بمرور الزمن مصدر إلهام وإقتباس للفن الأوروبي على مرّ العصور.
من المؤكد أن الفن والأدب، يستطيعان أن يلعبا دوراً كبيراً في تقريب شعوبنا، وإذابة مشاعر التصلب والعنصرية التي تضعفهم وتشوّه صورتهم، وتهدر طاقاتهم في التخلف والإنتحار الذاتي!!.
رحل زرياب إلى عالم الخلود في عام 845 م، وترك خلفه تراثاً كبيراً، مهّد لبروز ما يعرف اليوم بالفن العربي والأوروبي الذي أزدهر عبر قرون.
لقد سقطت الأندلس ولم تسقط إبداعات وابتكارات زرياب في أوروبا والعالم العربي مطلقاً ليبقى بصمته شاهداً مابقي الدهر أن للكورد جذورٌ عصيَّةٌ من أن يقتلعها المارقون مهما حاولت الماكينات الإعلامية المؤدلجة من إلغاء إسهاماتهم الحضارية وتغييب دورهم الريادي ونعتهم له بأبشع العبارات العنصرية والشوفينية.
مصادر البحث
- زرياب تاريخ وأسطورة للمؤلف والموسيقى (كريستيان بوتشيه).
- زرياب الكُردي خدم الأندلس وانتشر تراثه في أوروبا للكاتب (علي سيريني).
- شمس الله تسطع على الغرب للكاتبة والمشتشرقة الألمانية ( سيغريد هونكه).