علي بابا والمصباح الكهربائي
- هل سبق لك أن جرَّبت إحساس أحدهم وهو يَجِد قَبسَاً أو يكتشِف مصباحاً للكهرباء حتى يكادُ سَنا وهجهِ ليلاً يُذهِب بتلابيه؟؟!.
- هل تخيَّلت شعور أحدٍ من الناس وهو يشاهدها لأوَّل مرة بعد أن كان سقف تفكيره لا يتخطى الشمعدان أو الفانوس على أحسن تقدير.؟..!!
كنَّا عَرَباً “جوَّالة” نتَّخذ من بيوت الشَعر مسكناً ونجوب بها الصحارى الممتدة بين بِطاح متصرفيَّة دير الزور وسهول قرية عانة العراقية حيث لا حدود وقتها ولا جوازات سفر أو تأشيرة دخول ..طلباً للكلأ والماء لنا ولمواشينا.
لا أعلم بالتحديد عمري وقتئذٍ لعدم وجود سجلات رسمية بذلك لكنني أتذكر أنني كنت قد بلغت الحُلُمَ للتَّوِ، قرَّر والدي اصطحابي معه في رحلةٍ إلى بغداد سنة 1918 حيث سمع أن فيها سوقاً كبيراً تسمى سوق “الصفافير” تُباع فيها الفوانيس النحاسية المنقوشة.
كانت القبائل التي تملك فانوساً في ليالي الشتاء الطويلة معدودةً على الأصابع ومن يقتنيها كان أشبه بمن يمتلك اليوم هاتفاً أرضياً في قريتنا اليوم.
لقد كانت رحلة طويلة بحق حملنا فيها قِربَة ماء مصنوعةً من جلد الماعز وبعضاً من الأمتعة الخاصة وركبنا عباب الصحراء المقفرة مشياً على الأقدام في مسيرةٍ شاقة قُدِّرت لها أن تستغرق أربعٍ وعشرين يوماً .
تلك الرحلة التي جعلتنا نتعرف على معظم القرى الواقعة في مدينتي الأنبار والرمادي وعشائرهما المضيافة وصولاً إلى مشارف مدينة بغداد العريقة.
لم تكن إنشاء شخصية علي بابا الكارتونية المعروفة اليوم شخصية خيالية محضة ولا حتى العم علاء الدين فلقد سبقنا أنا ووالدي أسفارهما الغريبة مع فارق أننا كنا نبحر في الصحراء بدلاً عن البحر .
لقد كان الجو ربيعاً لكننا لم نكن نشعر بعليل الهواء في النهار لفرط ما كان يحمله من أتربة ناعمة تلتصق بالجلباب الذي كنا نرتديه فتقلب لونها من البني الداكن إلى أشبه ما تكون بخرقة قاتمة اللون تنفض عن نفسها غبار العجاج في كل خطوة نخطوها أو عندما تترنح قامتنا فيها بحكم التعب .
أما في الليل فكان الأمر أشد وطأةً منه بالنهار فالجو معتمٌ إلى حدِّ العمى والظلام حالك السواد وحسبنا أن نهتدي فيه بضويئ القمر الخافت بسبب كمية الغبار المتراكمة في الجو والتي كانت تُحيلها إلى أشبهَ ما تكونُ ببرتقالةٍ ذابلة.
ومع أنَّنا كنا نألفُ أجواءَ الصّحارى وقِفار الفَيَافِي إلا أننا لم نعتد قطع تلك المسافة سيراً على الأقدام من قبل.
كان شعر رأسي مكشوفاً وسرعان ما تتشعَّث وتغبرُّ مع هبوب أول رياح خفيفة مما استدعاني للطلب من والدي صمَّادة أو غُترة ألف بها رأسي درءاً لتناثر الأتربة في الليل ووقاءً للفحة الشمس المحرقة بالنهار .
وضعت الصمادة أو “الدسمال” على رأسي دون العِقال لكن سرعان ما كانت نسمات الرياح تنزعها وتجعلها خرقة بالية تتدحرج بين رمال تلك البلاد .
أدركت حينها أن العِقال العربي ليست موضة بالنسبة للبدوي بل حزاماً يلفُّه على الصمَّادة فتثبتها في غطاء الرأس حتى لا تطير مع أول نسمة هواء .
وبين هذا الهرج المتصابي وغياب أية فكرة لدينا بما سنشاهده في تلك الأمصار لمحنا أضواءً خافتة من مسافة بعيدة تقدر بعشرين كيلو متراً تضيئ حلكة الليل بغياب رفيقنا القمر وكأنها عناقيد متلألأة من الشمعدان .
كانت بغداد آنئذٍ تحت الإنتداب البريطاني الذي أدخل بدوره الكهرباء الى بغداد لأول مرة لتنوير مبنى السراي والقِشَل أو الثكنات العسكرية له.
لم نصلها في تلك الليلة ولم نكن نعرف حتى اسم الكهرباء ولا المصباح لنستفسرها من سكان الضواحي عن سبب الأضواء التي نشاهدها بالليل صادرة من مدينة بغداد بل كنا نخشى أن يستخف أحدهم بعقولنا في بلاد لم نقصدها أصلاً سوى لأجل فانوس نحاسي منقش.
وصلنا في الليلة الأخرى وقصدنا على الفور تلك الأضواء في حي الرشيدية وبقينا حوالي الساعة نتسمَّر المكان لنحدق في قبس تلك الأنوار وقد كنا على يقين أنها مجرد نجوم صغيرة تهبط من السماء لتستريح ليست إلا.