في منزلنا تلفزيون
في أواخر العام 1982 دخل أول جهاز تلفزيون إلى بيتنا فكانت على زعم كل من شاهدها حينئذٍ أنها بداية الإنبعاث.
قبل هذا التاريخ كنت طفلاً أسمع حكايات جدَّتي وهي تخبرنا في أقاصيصها الشَّعبية بأن راعياً يُدعى ( سوارو ) كان يبحث في أسفاره عن “مرآة الدنيا” ليظفر بنبأ عن محبوبته ( سينم )، وحين كنا نقاطعها مستفسرين عن هذه المرآة كانت تصفها لنا بأنها عبارة عن كرة دائرية مضيئة تعمل عبر وضع يدك عليها أو لمسها بعد أن تأمرها برؤية المشهد الذي أضمرته في قلبك!!!..
دخل التلفزيون إلى منزلنا ولم يزل بعد جدران بيتنا لبنيَّاً مبنيَّاً من الطوب تسترها طبقة سميكة من الطين اللَّازِب، مشقوقةُ الجدران، متصدعة الزوايا بفعل زيادة فقدان الماء بسبب حرص آبائنا على عدم خلط كمية كبيرة من مادة التبن الغالية وقتئذٍ مع التراب والماء حين تكوين عجينتها.
في ذلك المنزل القديم عشنا أجمل أيام فقرنا حيث كانت تضج بأصوات ضَحِكَاتنا، وتَلَذَّذْنَا بأجمل لحظات حرماننا ونحن نحلم بغدٍ أجمل ومكانٍ أفضل.
كان يكفي لأحدهم أن يتحدث لنا عن شيئ جميل حتى تبدأ ماكينة أدمغتنا بخلق وتصنيع وتركيب تلك الصورة بعد أن نكون قد نفخنا فيها من مخيلتنا اللامحدودة.
دخل علينا التلفزيون بعد أن كانت تسليتنا الوحيدة للمشاهدة في ليالي الشتاء الطويلة هي أن نتفقد جدران بيتنا المهترئ والمليئة بثغرات يدخل منها الهواء والماء كلما زارنا بضع زخات من المطر، أو يظل بصرنا يحدِّق في فتيل فانوس الكاز كلما انقطع التيار الكهربائي عن لمبة البيت الوحيدة.
كانت أكثر مشاهداتنا مساءً هي لسقف بيتنا فقد كان مبنيًّا من الطين يعلوه جذوع كالأقلام من أخشاب شجرة السنديان والذي لطالما تعقب نظري انحناءات تلك العيدان المتعرِّجة؛ فأتذكرها “بتداعي الأفكار وبمفهوم المخالفة” كلما وصلت في صلاتي إلى قوله تعالى: “اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ”.
كان مسلسل رؤيتي لبيتنا القديم تتجدد باستمرار فنحن كنا نراقب زواياه على الدوام وننتظر تلك العناكب الصغيرة لتكبر وتؤسس لنفسها أسرة.
لقد بدت العناكب والسحالي وحشرات أخرى تشكل جزءاً من تركيبة عائلتنا.
ذلك البيت كانت أحدى تلك الأمكنة التي شكلت حجر الزاوية في علاقتنا بالحياة كلها، بخصوصيتنا، بشعورنا بالأمان، وعلاقتنا بالحي الذي نسكنه، بالصداقات الأولى، وبعلاقاتنا العائلية التي كانت توثقها الكثير من المظاهر الجميلة، والعادات المنزلية الحميمة جداً داخل البيت.
دخل التلفزيون إلى منزلنا وسط أهازيج أطفال الحي الذين ضجت الطرقات بهم وهم يرافقون هذا الكائن الغريب في صورةٍ كانت أشبه بعراضة شامية أو كرنفال دخول العروس إلى مخبئها في ليلة الدخلة.
لقد كان هذا البيت بالنسبة لساكنيه و قاطنيه ذات يوم وطناً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لقد كان بوابة أمن وسلام لداخليه، كل اهتماماتنا كانت داخلية.. كيف نزكي أنفسنا؟. كيف نعاشر أخواننا؟. كيف نحب جيراننا؟. كيف نغيث ملهوفنا؟. كيف وكيف وكيف؟؟!..
لم يكن ليهمنا شكل هذا البيت أو زخرفته أو زينته بقدر ما اهتممنا فيه بالمضمون والجوهر، دخل علينا التلفاز فتغيرت مواضيعنا وانصرفت اهتماماتنا وانحرفت بوصلتنا إلا من رحم ربي.
ننظر بتلك العين الواحدة التي ترينا إياها شاشتها الصغيرة، فنبدأ نهتم بمواضيع غيرنا ورغباتهم وتبهرنا أناقة الناس والمكان، ونحكم على أنفسنا بالتخلف، وننظر إلى جوانبنا المضيئة على أنها كانت رجعية ومعتمة، ونقتبس دور اللص البطل، ونقلِّد بطولات زائفة ومضللة، ونقتدي بأناسٍ سفهاء بعد أن هدمنا قدواتنا الأجلاء، ثم نبحث عن أوطانٍ في آخر ما عمَّر الله لنشعر فيها بما كنا نشعر فيه أيام بيوتنا الطينية.
نعم لقد كان التلفزيون بداية خروجنا من قوقعة دائرتنا الضيقة إلى فضاء العالم الأرحب، ومن القمقم الذي كنا حبيسي أركانه إلى أسفار علي بابا وسندباد.
حيث من تلك البداية بدأت علامات النهاية!.
“نهاية العلاقات الاجتماعية والأسرية.”