عيد النَّيروز بين التأثير والعَولَمة!.

عيد النَّيروز بين التأثير والعَولَمة!..

لن أدخل هنا إلى سبب الإحتفال بعيد النَّيروز والسَّرد التأريخي لدى الأكراد والذي يصادف / 20 آذارمارس/ عند الغروب ، بإيقاد نار نوروز – وهي عادةٌ ترجع إلى تأريخ سقوط الإمبراطورية الآشورية على يد الميديين (أسلاف الأكراد) عبر شخصية كاوا الحدَّاد الذي خرج إلى الجبل وبيده شعلةُ نارٍِ لإرسال إشارة النصر إلى الناس بحسب الرواية الكوردية لشرح تاريخ عيد نوروز.

بل ما يهمني هو سبب تعميمهِ على بقيَّة الشُّعوب وإدعاء بقية القوميَّات بحصَّتها في نشأة وتأريخ هذا العيد.

فمثلاً نجد بأن الأكراد ينطقونها: Newroz | والتاتار Nawruz | والأغور Noruz | والطاجيك Navruz | والأوزبك Navroz | والتركمان Nowruz | والفرس Now Ruz | والبشتون Naw Wraz | والأذر Novruz | والأتراك Nevruz ..إلخ

خارطة توضيحية لما سبق

لذا بروحٍ بعيدةٍ عن الأهواء المريضة أو الميول العاطفية أو حتى القومية سنبدأ البحث..والله من وراء القصد.

إذا كانت العولمة مُصطَلحٌ جديد يُعبّر عن ظاهرة قديمة، أدّت إلى جعل العالم قرية إلكترونيّة صغيرة تترابط أجزاؤها عن طريق الأقمار الصناعيّة والإتصالات الفضائيّة والقنوات التلفزيونية، فقد ورد عن علماء التاريخ أنّ العولمة ليست ظاهرة جديدة بل قديمة ترجع في أصلها وبداياتها إلى كلِّ فكرٍ ثقافي أو إجتماعي تمَّ تعميمه بحكم احتكاك بعض الحضارات القوية بغيرها من الحضارات والثقافات الأخرى حتى برزت بشكل واضح في نهاية القرن السادس عشر الميلادي و بداية الاستعمار الغربي لآسيا وأوروبا والأمريكيتين ، ثمّ ارتبطت بتطور النظام التجاري الحديث في أوروبا.

فليس غريباً أن نقرأ بين الفينة والأخرى كاتباً معاصِراً يُنسِب عيد النَّيروز إلى الحضارة الفرعونية بقوله أن “النيروس” أو النوروز القبطي هو أول أيام السَّنة المصرية من شهر توت وأنَّ أقباط مصر كانوا يُحيونهُ  منذ زمن الفراعنة 3500 ق. م وإلى يومنا هذا تحت مسمى يوم شمِّ النسيم الذي يصادف في الحادي والعشرين من شهر آذار من كل عام في دولة مصر العربية!!..

أو أن نقرأ كذلك لمن يزعم أنَّ هذا العيد هو من الطقوس الفارسية القديمة مستشهداً على احتفال الإيرانيين اليوم بعيد “سيزده بدر” والتي يصادف تأريخها نفس يوم احتفال الكورد بنوروز وتتشابه معها من حيث الطقوس والعادات.

و السؤال الأكثر جدلياً هو:

لماذا تحتفل به شعوب أذربيجان وأفغانستان وألبانيا وتركمانستان وتركيا ومقدونيا وطاجيكستان وقيرغيزستان وكازاخستان والهند؟! مع ما يرافقها من تنظيم هذه الدول العديد من الاحتفالات والمهرجانات والرقصات والتقاليد الشعبية، وتعتبرها عطلة رسمية بالبلاد؟!

وللإجابة على هذا السؤال وتفكيك لغز معرفة السبب وراء تعميم هذا العيد على الشعوب التي تنتمي للعائلة الإيرانية بالتحديد يجب بدايةً  توضيح مسألةٍ في غاية الأهميَّة ؛ وهي أن وصفنا أو إطلاقنا لكلمة العائلة “الإيرانية” أو “الإيرانيين “لا تعني البتة دولة إيران الحديثة لأن إسم دولة إيران قد تم اختياره في العام 1935 حين طالب الشاه رضا بهلوي الدول الأجنبية علناً اعتماد اسم “إيران” عوضاً عن “فارس”، ووقع الاختيار على كلمة “إيران”؛ المستقاة بدوره من AR _AN والتي تعني حرفياً” النيران” حيث أنها كانت تُطلق على ديانة البلاد سابقاً وهي عبادة النار خلال عهد الساسانيين.

فمتكلمي اللغات الإيرانية أو ما يُسمى حينئذٍ بالعائلة الإيرانية كانوا ينتشرون في أرجاء أوراسيا بدءاً من البلقان إلى غرب الصين.

ويجب الملاحظة أن القوميات الإيرانية لا تقتصر على قاطني حدود إيران فقط، فمصطلح القوميات الإيرانية اليوم يُستخدم أحيانًا لتفادي الخلط مع المواطنين الإيرانيين من الفرس.

لذلك يعود أصل المجموعات العرقية المنتمية إلى القوميات الإيرانية إلى فرع من الآريون الهندو أوروبيين، حيث تعطي بعض المكتشفات الأثرية في روسيا، آسيا الوسطى والشرق الأوسط معلومات عن نمط معيشة تلك القوميات في الماضي.

وتعتبر القبائل الإيرانية القديمة أسلاف لكثير من القوميات اليوم منها، الفرس، الأكراد، الأفغان، والطاجيك وغيرهم.

وحتى نعي سبب تأثير عادة الإحتفال بهذا العيد وامتداده إلى بقية شعوب المنطقة وبقائه محافظاً على نفسه من الإندثار يجب أن نعطف قليلاً إلى تأثير سلوك بعض الإمبراطوريات القديمة الأخرى في شعوبها ووجودها أو تأثيرها في الحاضر الذي نعيشه اليوم.

لقد عرفت الحضارة الإغريقية الألعاب الأولمبية من خلال الإحتفاء والإحتفال بطقوسها مباشرة على جبل “أولمب” أو “أولمبوس” ، وهو جبل في اليونان حمل كل اعتقادات الإغريق بأن آلهتهم “زيوس وهيرا وأبولو وديميتير وديونيسيوس وأثنيا وغيرها”  يعيشون في قمة الجبل؛ لذلك بدأ الإغريق في تنظيم ألعاب تقام كل أربع سنوات تقرباً لآلهتهم وتضرعاً لها بتقديم القرابين.

كانت الألعاب الأولمبية التي بدأ تنظيمها في صيف العام 527 قبل الميلاد  متصلة أو نابعة من الميثيولوجيا التي كانت تسطر الحياة في العالم القديم ، وكان لكل ركنٍ من العالم القديم آلهتهُ ومعتقداتهُ التي يفاخر بها، ويسعى إلى “تصديرها” إلى المناطق الخاضعة لهيمنته .

واليوم فإن  دورة الألعاب الأولمبية الصيفية هي حدث رياضي عالمي يقام كل 4 سنوات منذ العام 1896 حيث تمَّ استلهام إنشائها من الألعاب الأولمبية الإغريقية القديمة التي كانت تُعقد في (أولمبيا ، اليونان) من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، والتي قادت فيما بعد إلى تنظيم أول دورة ألعاب أولمبية حديثة في أثينا عام 1896 ليبقى حدثاً عالميَّاً متجدِّداً يُقام بشكلٍ دوريٍ إلى يومنا هذا في العصر الحديث وشاهداً على تأثير الموروث الثقافي للحضارة الإغريقيَّة وعولمة فكرتها كما أسلفنا.

كذلك عرفت الإمبراطورية الرومانية القديمة 509ق م 235م الإحتفالات السنوية العديدة وأسمتها ب”الفيرايي” وتعني “العطلات” وقد خصصت لها العديد من الأماكن المعروفة وقتئذٍ بالمدرجات الرومانية والتي استقت منها اليوم فكرة معظم الحفلات والمهرجانات الدولية نظامها وحتى توقيت عطلتها.

هذا بالإضافة إلى وجود اسماء آلهة كانت تعبدها وتقدسها الرومان وبقيت محتفظة إلى يومنا هذا ببعض أسمائها شاهدةً كذلك على مدى تأثيرها وعولمة فكرتها ؛ “فنبتون، بلوتو، ديانا، فكتوريا، مارس، أبولو، وفينوس” وغيرهم الكثير من هذه الآلهة بقيت أسماؤها تتكرر على مسامعنا إلى يومنا هذا رغم قِدمها كأسماء ؛ وقد تمَّ إطلاق هذه التسميات على فعاليات حديثة ومركبات فضائية أو كواكب وشهور وحاملة طائرات وحتى أسماء مشاهير في شتى بقاع العالم .

أما في أرض الرافدين فتبدأ من هنا حكاية أعياد الربيع منذ أزمنة بعيدة ؛ حيث يقول بعض العلماء والمؤرخين أنها تمتد بين (الألف الرابع والخامس ق . م) ، وبعض المصادر تقول أن السومريين والشعوب الآرية المنضوية تحت لواء هذه الحضارة إحتفلوا بعيد النيروز أو الديموز منذ عصر (أريدو -5300 ق. م).

وإذا كانت الحضارة السومرية التي سكنت “وادي الرافدين” أو ما يُعرَف بِ “ميزوبوتاميا” واحدًا من أخصب بقاع العالم لوفرة الماء والطمي الذي تأتي به مياه نهرية من منابعها في المناطق الجبلية ؛ لذا قامت فيه واحدة من أعرق الحضارات الإنسانية وأقدمها على الإطلاق.

فقد مورست الزراعة التي أدَّت إلى الإستقرار في القرى في جنوبي الوادي في منطقة عرفت باسم ” زيبار أو سومار” ، حيث مارس أهلها الزراعة والصيد ، وبرعوا في بناء السدود ، وقنوات المياه لري أراضيهم الزراعية وحمايتها ، وكان إنجازهم الأكبر في تاريخ العالم هو اختراعهم لنوع من الكتابة في حوالي عام 3500 ق.م.

وحيث أن اغلب الباحثين المختصين بعالم الأساطير والتاريخ القديم يتفقون على أن نوروز هو أحد أقدم الأعياد في تاريخ البشرية وفي التاريخ القديم لبلاد ما بين النهرين حيث يشير أكاديمي مختص بالأساطير الى ان عيد (ديموز) هو عيد الحصاد والخضرة ، وكانت تقام فيه أعراس الإله “ديموز”  وطقوس الزواج المقدس ويصادف تحديداً 21 آذار من كل سنة وهي بداية السنة السومرية الجديدة .

لذا فإن عيد ديموز المعروف لدى السومريين هو ذاته عيد نوروز ، ويضيف الباحثين والمؤرخين المعنيين بهذا الصدد بأن هنالك أجماعاً لدى علماء الآثار والتاريخ بان السومريين قد نزحوا من جبال كوردستان الى جنوب ما بين النهرين ، وأن الأكراد اليوم هم أحفاد السومريين؛ويُستدلُّ للرابط بين (ديموز) و(نوروز) بأن الإثنان يقامان في نفس اليوم حسب التقويم الشمسي ولهما نفس الأبعاد الدلالية من حيث اعتبارهما اليوم الأول من العام الجديد وبداية فصل الربيع لذلك لاغرابة أن يكون نوروز عيداً سومرياً يُحتَفل به منذ حقبة هذه الحضارة العريقة.
ومهما اختلف المؤرخين حول أصل الأمة السومريَّة ولغتهم فإنهم لا محالة يتفقون بالإجماع على أنهم إتخذوا مما يُعرَف اليوم “بكوردستان” بقعة جغرافية لها امتدت على معظم بلاد ما بين النهرين ؛ وكانت لها تأثير واضح لدى معظم الشعوب الآريَّة ، وقد تمَّ إحياء هذه الذكرى من أسلاف السومريين فيما بعد وهم الميديين والذين أنشؤوا امبراطوريتهم على نفس البقعة الجغرافية المذكورة آنفاً والذين قاموا بربط هذا العيد بحدثٍ تاريخيٍ معين وهي سقوط الدولة الآشورية مع ما رافقتها بعدئذٍ من ميثولوجية “كاوا الحدَّاد والملك الظالم” وذلك حتى تضفي على تأريخهم شيئاً من الإحياء والإنبعاث ، وتترسخ قيم الحرية والإنعتاق في وجدان الشعوب الميدية المضطهدة يوماً ما.

لذا فإنَّ تعميم وعولمة هذا العيد بدأت بالمملكة السومرية ثم انتشرت على بقية الشعوب الآريَّة التي تأثرت بحضارتها بحكم احتكاكها، ونتيجة مزج الثقافات وانصهارها فيما بينها وقتئذٍ كالعيلاميين والفراعنة والفرس والأفغان والتاجيك والآذريين وغيرهم ، أما لدى الكورد فهو أخذ منحىً مغايراً تماماً بعد أن كان عيداً دينيَّاً لها كبقية الشعوب ؛ أصبحت عيداً يرمز لمعانٍ سامية وقيمٍ عظيمة تتعلق بأيقونة الحرية ونهاية الجور.

ولا مندوحة من الإشارة إلى أن الاحتفال بهذا العيد في العقود الحديثة لم تكن سلساً دائماً، فقد منعت الأنظمة في سوريا والعراق وتركيا الإحتفال بالعيد لفترات من الزمن بسبب المخاوف من تأجيج الروح القومية الكوردية، واستعاضت سوريا والعراق بتسمية “أعياد الربيع” أو “عيد الشجرة” أو “عيد الأم”عن تسمية نوروز حينها سمحت السلطات أخيراً بالاحتفال بهذه الأعياد، أما إيران فقد أخرجت نفسها من دائرة هذه المخاوف من إحتفال الكورد هناك بهذا العيد، وزعمت أن عيد “سيزده شهر” التي تحتفل به الفرس ما هو إلا في الأصل عيد النوروز نفسه ودعمتها بحملة دعائية وتأريخية تُرجع هذا العيد لأصولٍ إيرانية قديمة؛ مع ما نوهنا عنه من وجود خلط تاريخي واضح بين الفرس كقومية وبين الإيرانيين كشعوب وقوميات آرية . 

مصادر البحث:

  • رزان صالح : ماهي العولمة.
  • نوروز والأعياد السومرية شبكة أخبار العراق.
  • الحسين بوتشيشي :التسلسل الزمني لأهم حضارات العالم القديم.