آثار البلاد وأخبار العباد
المقدمة:
تعتبر مقدمة الكتاب من أعظم المقدمات الفلسفية والتوضيحية التي يمكن للإنسان أن يقرأها فيقول فيها: أعلم أن الله تعالى خلق الإنسان على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده كسائر الحيوانات، بل يضطر إلى الاجتماع بغيره حتى يحصل الهيئة الاجتماعية التي يتوقف عليها المطعم والملبس، فإنهما موقوفان على مقدمات كثيرة لا يمكن لكل واحدٍ فينا القيام بجمعها وحده، فإن الشخص الواحد كيف يتولى الحراثة فإنها موقوفة على آلاتها، وآلاتها تحتاج إلى النجار، والنجار يحتاج إلى الحداد، وكيف يقوم بأمر الملبوس وهو موقوف على الحراثة والحلج والندف والغزل والنسج وتهيئة آلاتها، فاقتضت الحكمة الإلهية الهيئة الاجتماعية، وألهم كل واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدمات، حتى ينتفع بعضهم ببعض، فترى الخباز يخبز الخبز، والعجان يعجنه، والطحان يطحنه، والحراث يحرثه، والنجار يصلح آلات الحراث، والحداد يصلح آلات النجار، وهكذا الصناعات بعضها موقوفة على البعض، وعند حصول كلها يتم الهيئة الاجتماعية، ومتى فقد شيء من ذلك فقد اختلت الهيئة الاجتماعية، كالبدن إذا فقد بعض أعضائه فيتوقف نظام معيشة الإنسان.
وصف الكتاب للمعادن وتشكلها:
أما المعادن فالذهب لا يتكون إلّا في البراري الرملية والجبال الرخوة والفضّة والنحاس والرصاص والحديد لا تتكوّن كلها إلّا في الأحجار المختلطة بالتراب اللين والكبريت لا يتكوّن إلّا في الأراضي الناريّة والزئبق لا يتكوّن إلّا في الأراضي المائية والأملاح لا تنعقد إلّا في الأراضي السبخة والشبوب والزجاج لا تتكوّن إلّا في التراب العفص والقار والنفط لا يتكوّن إلّا في الأراضي الدهنة.
وصف الكتاب لجغرافية الأرض وتقسيم أقاليمها:
قال أبو الريحان الخوارزمي: إذا فرضنا أن دائرة معدل النهار تقطع كرة الأرض نصفين: يسمّى أحد النصفين جنوباً، والآخر شمالاً، وإذا فرضنا دائرة تعبر عن قطبي معدّل النهار وتقطع الأرض، أصبحت كرة الأرض أربعة أرباع: ربعان جنوبيّان، وربعان شماليّان، فالربع الشمالي المكشوف يسمّى ربعاً مسكوناً، والربع المسكون مشتمل على البحار والجزر والأنهار والجبال والبلدان والقرى، على أن ما بقي منها تحت القطب الشمال قطعة غير مسكونة من البرد الشديد وتراكم الثلوج، وهذا الربع المسكون قسموه سبعة أقسام، كل قسم يسمّى إقليماً ، كأنّه بساط مفروش من الشرق إلى الغرب طولاً، ومن الجنوب إلى الشمال عرضاً، وإنّها مختلفة الطول والعرض، فأطولها وأعراضها الإقليم الأوّل، فإن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ثلاثة آلاف فرسخ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من مائة وخمسين فرسخاً، وأقصرها طولاً وعرضاً الإقليم السابع، فإن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ألف وخمسمائة فرسخ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من خمسين فرسخاً.
وأمّا سائر الأقاليم فمختلف طولها وعرضها، وعلى الصفحة المقابلة صورة كرة الأرض بأقاليمها، وهذه القسمة ليست قسمة طبيعيّة، لكنّها خطوط وهميّة وضعها الأوّلون الذين طافوا بالربع المسكون من الأرض، ليعلموا بها حدود الممالك والمسالك، مثل أفريدون النّبطي وأسكندر الرومي وآردشير الفارسي.
جزيرة الرّامني:
في بحر الصين قال محمّد بن زكريا الرازي: بها ناس عراة لا يفهم كلامهم لأنّه مثل الصفير، طول أحدهم أربعة أشبار، شعورهم زغب أحمر، يتسلّقون على الأشجار، وبها الكركدن وجواميس لا أذناب لها، وبها من الجواهر والافاويه ما لا يحصى، وبها شجر الكافور والخيزران والبقمّ وعروق هذا البقّم دواء من سمّ الأفاعي، وحمله شبه الخرنوب وطعمه طعم العلقم.
وقال ابن الفقيه: بها أناس عراة رجال ونساء على أبدانهم شعور تغطي سوءاتهم، وهم أمّة لا يحصى عددها، مأكولهم ثمار الأشجار، وإذا اجتاز بهم شيء من المراكب يأتونه بالسباحة مثل هبوب الريح، وفي أفواههم عنبر يبيعونه بالحديد.
شيلا:
بلدة من أواخر بلاد الصين في غاية الطيب، لا يرى بها ذو عاهة من صحّة هوائها وعذوبة مائها وطيب تربتها، أهلها أحسن الناس صورة وأقلّها أمراضاً، وذكر أن الماء إذا رشّ في بيوتها تفوح منه رائحة العنبر، وهي قليلة الآفات والعلل، قليلة الذباب والهوام، إذا اعتلّ الإنسان في غيرها ثم نقل إليها زالت علله، قال محمّد بن زكريا الرازي: من دخلها استوطنها ولا يخرج عنها لطيبها ووفور خيراتها وكثرة ذهبها.
بلاد الزّنج:
مسيرة شهرين، شمالها اليمن وجنوبها الفيافي، وشرقها النوبة وغربها الحبشة، وجميع السودان من ولد كوش بن كنعان بن حام، وبلاد الزنج شديدة الحرّ، وحلكة سوادهم لاحتراقهم بالشمس، وقيل: إن نوحاً عليه السلام دعا على ابنه حام فاسودّ لونه، وبلادهم قليلة المياه قليلة الأشجار، سقوف بيوتهم من عظام الحوت.
زعم الحكماء أنّهم شرار الناس ولهذا يقال لهم سباع الإنس، قال جالينوس: الزنج خصّصوا بأمور عشرة: سواد اللون وفلفلة الشعر وفطس الأنف وغلظ الشفة وتشقق اليد والكعب، ونتن الرائحة وكثرة الطرب وقلّة العقل والأكل.
سلوق:
نقل السّلوقيّ المضاعف نسجهويوقد بالصّفّاح نار الحباحب
منهم ضوار من سلوق كأنّهاحصن تجول تجرّر الأرسانا
صنعاء:
بناها صنعاء بن ازال بن عنير بن عابر بن شالح، شبّهت بدمشق في كثرة بساتينها، وتخرّق مياهها وصنوف فواكهها.
إرم ذات العماد:
بين صنعاء وحضرموت من بناء شداد بن عاد روي أن شداد بن عاد كان جباراً من الجبابرة لما سمع بالجنة وما وعد الله فيها أولياءه من قصور الذهب والفضة والمساكن التي تجري من تحتها الأنهار والغرف التي فوقها غرف قال : إني متخذ في الأرض مدينة على صفة الجنة فوكل بذلك مائة الرجل من وكلائه تحت يد كل وكيل ألف من الأعوان ( أي مائة ألف عامل ) وأمرهم أن يطلبوا أفضل فلاة من أرض اليمن ويختاروا أطيبها تربة ومكنهم من الأموال ومثل لهم كيفية بنائها وكتب إلى عماله في سائر البلدان أن يجمعوا جميع ما في بلادهم من الذهب والفضة والجواهر فجمعوا منها ما يقارب مثل الجبل وبنى المدينة بها وأمر أن يفضض حيطانها بجواهر الدر والياقوت والزبرجد وجعل فيها غرفاً فوقها غرف ثم أجرى إليها نهراً ساقه إليها من أربعين فرسخاً تحت الأرض فظهر في المدينة فأجرى من ذلك النهر سواقي في السكك والشوارع وأمر بحافتي النهر والسواقي فطليت بالذهب الأحمر وجعل حصاه أنواع الجواهر الأحمر والأصفر والأخضر ونصَّب على حافتي النهر والسواقي أشجاراً من الذهب وجعل ثمارها من الجواهر واليواقيت وجعل طول المدينة إثني عشر فرسخاً وعرضها مثل ذلك وصير سورها عالياً مشرفاً وبنى فيها ثلاثمائة ألف قصر مفضضاً بواطنها وظواهرها بأصناف الجواهر ثم بنى لنفسه على شاطئ ذلك النهر قصراً منيفاً عالياً يشرف على تلك القصور كلها وجعل بابه يشرع إلى واد رحيب ونصب عليه مصراعين من ذهب مفضض بأنواع اليواقيت وجعل ارتفاع البيوت والسور ثلاثمائة ذراع وجعل تراب المدينة مخلوط بالمسك والزعفران وجعل خارج المدينة مائة ألف منظرة ( يتوقع بيوت للجيش ) أيضاً من الذهب والفضة لينزلها جنوده، ومكث في بنائها خمسمائة عام فبعث الله تعالى إليه هود النبي عليه السلام فدعاه إلى الله تعالى فتمادى في الكفر والطغيان وكان إذ ذاك تم ملكه سبعمائة سنة فأنذره هود بعذاب الله تعالى وحذره بزوال ملكه فلم يرتدع عما كان عليه وعند ذلك وافاه الموكلون ببناء المدينة وأخبروه بالفراغ منها فعزم على الخروج إليها في جنوده وخرج في ثلاثمائة ألف رجل من أهل بيته وقادة بلده وخلف على ملكه ابنه مرثد بن شدد وكان مرثد فيما يقال مؤمناً بهود عليه السلام فلما انتهى شداد إلى قرب المدينة بمرحلة جاءت صيحة من السماء فمات هو وأصحابه وجميع من كان في أمر المدينة من القهارمة والصناع والفعلة وبقيت لا أنيس بها فأخفاها الله لم يدخلها بعد ذلك إلا رجل واحد في أيام معاوية يقال له عبد الله بن قلابة فإنه ذكر في قصة طويلة ملخصها أنه خرج من صنعاء في طلب إبل ضلت فأفضى به السير إلى مدينة صفتها ما ذكرنا فأخذ منها شيئا من المسك والكافور وشيئا من الياقوت وقصد الشام وأخبر معاوية بالمدينة وعرض عليه ما أخذه من الجواهر وكانت قد تغيرت بطول الزمان فأحضر معاوية كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال: هذا إرم ذات العماد التي ذكرها الله تعالى في كتابه بناها شداد بن عاد لا سبيل إلى دخولها ولا يدخلها إلا رجل واحد صفته كذا وكذا وكانت تلك الصفة صفة عبد الله ابن قلابة فقال له معاوية: أما أنت يا عبد الله فأحسنت النصح ولكن لا سبيل لها وأمر له بجائزة.
مؤلف الكتاب : عبد الله زكريا بن محمد بن محمود القزويني عالم ومؤرخ شهير ولد بمدينة قزوين بإيران يرتفع نسبه إلى الإمام مالك بن أنس ولد في العام 1203م وتوفي عام 1283م في بغداد .